ماذا يفقد الطفل عند رحيل والديه؟

ذهبت إلى صديقتي لأقدم لها العزاء في والدتها، وأعرف جيدًا أن فقدان الأم ليس سهلًا، وخصوصًا أن صديقتي كانت متعلقة جدًا بوالدتها، وقد صادف وقت الوفاة وقت ولادة صديقتي، ورزقها الله بفتاة جميلة تشبه البدر في تمام ليلته، لكن كان الوضع صدمة كبيرة بالنسبة لها، فهمي لا تصدق ما يحدث ولم تشعر بأي فرحة نهائيًا، كانت تقول: " أنا لا أريدها، خذوها واحضروا لي أمي مرة أخرى!". بالكاد لم تكن في وعيها فهي ما زالت لا تعرف شعور أن تكون أم وتحتضن طفلتها وترعاها لتكبر أمام عينها، ولم تكن لتستوعب ما يحدث.

كنت أعذرها فأنا أعلم بأنها مهما كبرت فستكون دائما بحاجة إلى وجود والدتها بجانبها، فهي كانت لها منبع الحنان ومصدر الأمان بجانب والدها، ولكن سبحان من جعل لكل منهم مكانة خاصة لا تغني عن وجود الآخر.

كنت أعلم أنها بحاجة إلى من يقدم لها الأمان ويطبطب على كتفيها حتى تستطيع أن تتجاوز الأيام، ولكن مرت الأيام والشهور والسنين وهي لم تتجاوز بعد، ففي كل جلسة بيننا تذكرها وتذكر كم تشتاق إليها.

في الحقيقة مرور الأيام والسنين سهل، لكن ما في نفوسنا وقلوبنا هو الذي لا يمر بسهولة، فمهما كبرنا وتجاوزنا سنظل نفتقدهم وسنظل متأثرين إن لم نجد ما يلهينا أو يعوضنا، وحتى إن لم يكن لهم عوض يغنينا عنهم، لكن على الأقل حتى تمر الأيام بخير وبأقل خسائر على أنفسنا.

 

كيف يؤثر فقدان الوالدين على الطفل

إذا كان فقدان أحد الوالدين أو كليهما يتأثر به من هم في سن كبير ويعقلون ويفهمون، فما بالك كيف سيكون الأثر على نفس الطفل؟!

أكدت بعض الدراسات عن علماء النفس، أن وجود الأسرة في حياة الطفل هي أكبر وأقوى أداة تعمل على تشكيل وتكوين شخصية الطفل وخصوصًا في سنوات حياته المبركة، ووجود أخوة في الأسرة يساعد في تنمية شخصيته من خلال المشاركة في الحياة، وإذا تم فقد أحد أطرافها يختل التوازن.

بعد فقدان الأم والأب تنقلب حياة الطفل رأسًا على عقب، فهو في لحظة يشعر بأن مصدر الأمان والحنان انسرق في لمح البصر، وفي محاولة منه للبحث لعله يجده في مكان أو في أحد آخر ولكنه لا يجد في النهاية.

في هذه الفترة قد يتعرض الطفل لكثير من المشكلات النفسية والصحية التي تؤثر على حالته بالسلب، لذلك فهو بحاجة إلى الإهتمام والرعاية والعناية أكثر من أي وقت مضى.

وعندما يذهب طفل يتيم، أو حتى طفل كريم النسب إلى دار رعاية أو ملجأ، ومهما كان مُقدم لهم من رعاية واهتمام، لكن في النهاية هم مازلوا محرومين من جو الأسرة الطبيعية، فمن ضمن الحاجات التي سيظل مفتقدها الطفل طوال الوقت بسبب إحساسه بالفقد:

-        القضاء على الوحدة:

رغم كل الجهود المبذولة لهم سيظلون يشعرون بالوحدة والجفاء والنص وكأنهم محبوسون في سجن كُتب عليهم طوال الحياة، هذا هو الشعور الذي يراودهم دائمًا، ومهما توفرت لهم احتياجتهم فهم مازلوا بحاجة إلى أن يعيشوا وسط أسرة وعائلة.

-        الشعور بالأمان:

عندما يتعرض الطفل لفقدان والديه في وقت مبكر، فهو يشعر بحالة مستمرة من الخوف، لأنه في هذا الوقت يكون قد فقد مصدر الأمان بالنسبة له، فيخاف من التعرف على أشخاص جديدة، ويخاف من التعامل مع من حوله، فيتحول الطفل إلى شخص ضعيف وجبان.

-         الحاجة إلى الحب والحنان:

الحاجة إلى وجود حب وحنان في الحياة عموما تجعل الشخص قادر على تجاوز أيامه، لأنه يشعر بأن بجانبه من يقدم له الحب ويطيب خاطره ويحتويه عند حدوث مشكلة أو غيرها، ما بالك بحاجة الطفل إلى هذا الشعور، وعندما يفقده فهو يفقد معه جزء كبير من الحياة، فلا يوجد من يحبه أو يحتويه أو حتى يشجعه على فعل الأشياء التي يحبها.

-         التقدير:

هو بحاجة إلى من يقدره ويرفع من شأنه ويقدر إنجازاته ويعترف بها، بحاجة إلى أن يشعر أنه محط اهتمام ومميز، يحتاج إلى أن يتعامل معاملة تقدر ذاته، وهذا بالطبع لن يحدث في دور الرعاية أو الملاجئ لأن المسئولية تكون كبيرة ويتم معاملة الجميع بنفس المعاملة.

-        الحرية:

حاجة الطفل للحرية تتمثل في احتياجه للتعبير عن آراءه دون خوف، حاجته إلى الاختيار بنفسه لأشياءه مثل ملابسه أو ألعابه أو نوع الأكل الذي يحب، حريته في التصرف وحريته في اختيار أوقات نومه واستيقاظه، فهو ليس بحاجة إلى التحكم في كل تصرفاته واختياراته وإملاء الأموار عليه.

-        الاستقرار والتوازن النفسي:

يأتي الاستقرار والتوازن النفسي للطفل من شعوره بالأمان والطمئنينة من حوله، وفي عدم وجود الأب والأم يكون فاقد لهذا الشعور وبالتالي لا يشعر بالاستقرار ولا التوازن، فيكون في حالة من التخبط والتشتت ولا يعرف ما ينتظره وكيف سيكون مصيره.

-         الانتماء:

يريد الطفل الشعور بالإنتماء بوجوده وسط عائلة تحبه ويحبونه، ويفتخر بهم، فلا يتعرض لأسئلة من نوع ( أين أهلك، أين أبوك وأمك، هل أنت مقطوع من شجرة؟!).

-         الخصوصية:

الطفل يحتاج إلى أن ينفرد بنفسه وتكون له غرفته الخاصة، يريد أن يجلس بمفرده قليلًا دون تدخل أحد من حوله، أن تكون له ألعابه الخاصة وأشيائه الخاصة، يريد أن يشعر أنه ليس من حق الجميع التدخل في خصوصياته. 

هناك الكثير من الحاجات التي يريدها الطفل ولكنه يفتقدها بفقدان والديه، وهذا الفقد يؤثر بالسلب على حياته  وعلى تكوين شخصيته، فإن لم تتوفر له هذه الحاجات لن يكون الطفل قادر على بناء وتكوين شخصية سوية وسليمة، ومهما كبر فهو بحاجة إلى وجود أسرة وعائلة تحتضنه وتحتويه وتقدم له مشاعر الحب والإحتواء والتقدير  ليكون شخص سوي نفسيًا وصحيًا.

وإن لم يعيش هذا الطفل أبسط حياة يحتاج إليها، فقد يتسبب الأمر بعد ذلك في  قصور واستقرار نفسية الطفل مما ينتج عنه من أضرار نفسية وسلوكية، وقد يصل إلى العدوانية والشعور الكامن بالإنتقام بسبب الحرمان الذي يتعرض إليه.